iklan banner

العربيّة بين أخواتها الساميّة



‌أ.             الفصل الأوّل : أشهر فصائل اللّغات
لعلّ أفضل النظريات في تقسيم اللّغات هي التي تعوّل على صلات القرابة اللّغويّة، فتنشئ من كلّ مجموعة متماثلة أو متشابهة في الكلمات وقواعد البنية والتراكيب فصيلة من الفصائل تؤلف بينها غالبا روابط جغرافية وتاريخية واجتماعية.
وعلى هذا الأساس لاحظ العلماء مجموعتين هامتين متميزتين، سموا إحداهما الفصيلة الهندية - الأوروبية Indo-Européenne والأخرى الحامية – السامية Chamito-Sémitiques ، وتنبهوا إلى صلات القرابة بين اللّغات الدّاخلة تحت كل منهما على حدّة، وإلى الصفات المشتركة بين الفصيلتين كلتيهما، ثم جاء مكس مولر Max Moller بتقسيمه الثلاثي اللّغات، حين سمّي طائفة من اللّغات الأسيوية والأوروبية التي لاتدخل تحت الفصيلتين السابقتين باسم اصطلاحي هو الفصيلة الطورانية Touranienne. وإنّما كان الاسم اصطلاحيّاً لأنّ أفراد الفصيلة الأخيرة متنوّعة جدّاً، ومتباعدة جدّاً، وليس بينهما روابط لغويّة واضحة. وهذا ما دعا المحدّثون من علماء اللغة إلى تقسيم ما بقي من اللّغات الإنسانيّة إلى تسع عشرة فصيلة، تنفرد كلّ فصيلة منها بروابط من القرابة اللّغويّة في الأصول والقواعد والتراكيب، وبذلك أصبحت فصائل اللّغات الإنسانيّة إحدى وعشرين أهمها الأوليان، والباقية ثانوية متفرقة في أنحاء مختلفة من العالم. وهذه الفصيلتين الهامتين[1]:
1.          الفصيلة اليافثية أو الهندية – الأوروبية
هي تلك المجموعة التي ترجع إلى المتكلمين بها من نسل يافث بن نوح، وقد اختلف في موطنهم الأوّل، فقيل: إنه كان بالمناطق الروسية، بأوروبا الشرقية، وقيل: إنه كان بمناطق بحر بلطيق[2]. ويتكلم بها الآن كثير من شعوب أوروبا وأمريكا وأستراليا وجنوب أفريقيا.
وتشمل هذه الفصيلة عديداً من اللغات، تتلخص في ثمان طوائف[3]:
1)         اللغات الهندية والفارسية، وتسمى اللغات الآرية، وتنتشر في بلاد الهند والإيران.
2)         اللغات اليونانية، وتشمل اليونانية القديمة واليونانية الحديثة (التي نشأت في القرن السابع الميلادي)، ولغة اليونان في عصرنا الحاضر.
3)         اللغات الرومانية، ومن فروعها (اللاتينية) التي انقسمت إلى عدّة لغات، هي: البرتغالية، والأسبانية، والفرنسية، والإيطالية، ولغة رومانية[4].
4)         اللغات الجرمانية، شعبتان: الغربية والشمالية، فمن فروع القسم الغربي: الإنجليزية، والهولندية والألمانية. ومن فروع القسم الشمالي: السويدية، والنرويجية، والدنمركية.
5)         اللغات السلافيّة، وهي شعبتان صقلبية وبلطيقية. فمن الأوّل: الروسية والتشيكية، ومن الثاني: البروسية القديمة والليتوانية.
6)         اللّغات الأرمنية.
7)         اللّغات الألبانيّة.
8)         اللغات الكلتية التي كان ينطق بها شعوب الكلت Les Celtes. ولها بقايا في إقليم أيرلندا والبريتون الواقع في غربي فرنسا.

2.          الفصيلة الحامية - السّامية
الحامية هي اللغات التي ترجع إلى سلالة حام بن نوح، وقد انتشرت في شمالي أفريقيا وشرقيها. وهذه الفصيلة تشمل لغات كثيرة منها:
1)         اللّغة البربرية، وأمّا البربريّة فهي لغة السكان الأصليين لشمال إفريقيّة.
2)         اللّغة المصريّة القديمة، وهي اللغة قبل اتصالها باللغة السامية.
3)         اللغة الكوشيتيّة، فهي لغة السكان الأصليين للقسم الشرقي من إفريقيّة.
اللغات السامية تقسم إلى: شرقية وغربية، كما تقسم الغربية إلى غربية شمالية وغربية جنوبية.[5]
1)         فالسامية الشرقية هي الأكادية بفرعيها البابلية والآشورية، ونقوشها مكتوبة بالخط المسماري على الطين المجفّف، ومن أهم هذه النقوش، ذلك النقش الذي دوّن به قانون (حمورابي) المشهور. والأكادية تنسب إلى مدينة (أكاد) التي بناها سرجون في الجزء الشمالي من أرض بابل لتكون عاصمة لدولته، وهي أولى الدول التي أنشأها الساميون في أرض الرافدين.
2)         فالسامية الغربية الشمالية تضمّ الكنعانية والآرامية. وتقسم الكنعانية إلى كنعانية قديمة ومؤابية وفينيقية وعبرية قديمة. والآرامية (يافيثية) تقسم إلى قسمين: مجموعة لهجات شرقية ومجموعة لهجات غربية.
3)         فالسامية الغربية الجنوبية فتضمّ الحبشية والعربية. فالحبشية هي لغة القبائل العربية التي هاجرت من جنوبي الجزيرة العربية عابرة باب المندب إلى إفريقية، وأهم هذه القبائل هي قبيلة (حبشت) وقبيلة (الأجعازي). وتقسم العربية إلى قسمين: العربية الجنوبية والعربية الشمالية. فالعربية الجنوبية موطنها اليمن بلاد العرب الجنوبية التي تعدّ من أقدم مراكز الحضارة عند الأمم السامية. وتقسم من أقسام متعدّدة من أهمها: المعينية والسبئية والحضرمية والقتبانية. وأمّا العربية الشمالية تقسم إلى العربية البائدة والعربية الباقية. فالعربية البائدة هي عربية النقوش التي دلّت على لهجات كان يتكلم بها عشائر عربية تسكن شمال الحجاز، وقد عرفت هذه النقوش باسم النقوش اللحيانية والثمودية والصوفية. وأمّا العربية الباقية فهي اللغة العربية الفصحى التي سادت في وسط الجزيرة وأطرافها في زمن لم يعرف بالتحديد. فتقسم على قسمين: لغة الحجاز ولغة تميم.[6] وإذا أردنا أن نصف شجرة اللغات السامية لنرى كيف تفرعت عنها لغتنا العربية كما تلي.
3.          فصائل اللغات الإنسانية الأخرى
أمّا بقيّة اللّغات الإنسانية الأخرى فقد ذهبت جمعية علم اللّغة ببارس إلى قسمتها إلى تسعة عشر فصيلة، أهمها[7]:
1)                  اللّغات الطورانية، كالتركيّة والمغوليّة والمنشورية، وبها سمي ماكس مولر جميع الفصائل الباقية على سبيل الإصلاح الخاص.
2)                  اللّغات اليابانيّة.
3)                  اللّغات الصينيّة – التيبتية.
4)                  اللّغات الكورية (لسكان جزيرة كورية).
5)                  اللّغات القوقازيّة (ويستثنى منها اللّغات القوقازيّة السامية والهندية الأوروبيّة).
6)                  اللغات البنطوية، المنتشرة في منطقة كبيرة من جنوب أفريقية كالصومال والكاميرون.
7)                  لغة السودان وغانة.
8)                  اللغات الملايوية البولينزية Malayo-Polynésiennes ومنها الأندونيسية والملانيزية.
9)                  اللغات الاسترالية الآسيوية، وتنتشر في الجزء الآسيوي الجنوبي المنحذر إلى استراليا.
10)            اللغات الدرافية
11)            اللغات الأمريكية
12)            لغات البوشيمان والهرتنتوت والنيجريين
13)            وغير ذلك[8]
قد حاولت الباحثة من نظرية علماء اللغة السابقة أن تقارن بين الفصيلتين الهامتين (السامية) و (الهندية الأوروبية)، ولكن التوسع في هذا خارج عن نطاق البحث، فتستكفي بإشارة عابرة إلى خصائص اللغات السامية تمهيداً لبحث خصائص لغتنا العربية التي تفرعت عنها.
بناءً ذلك نصف شجرة اللغات السامية فيما تلي:


شجرة اللغات السامية
                                                                                                                  
شرقية (وهي الأكادية أو المسمارية                              غربية


 
شمالية                                                       جنوبية
كنعانية                         آرامية                           الحبشية            العربية

مجموعة لهجات شرقية        مجموعة لهجات غربية
                                                                  العربية الجنوبية     العربية الشمالية
كنعانية قديمة    مؤابية             فينيقية             عبرية قديمة       


 
معينية                       سبئية              حضرمية           قتبانية            


 
                                              البائدة                                          الباقية







 
لحيانية               ثمودية              صفوية            حجاز                       تميم

‌ب.      الفصل الثاني : لمحة تاريخيّة عن اللّغات الساميّة
                يطلق العلماء اليوم على الشعوب الآرامية والفينيقية والعبرية والعربية واليمنية والبابلية — الآشورية لقب الساميين. وكان العلامة المستشرق الألماني شلوتزير Schlozer أوّل من استخدم هذا اللقب في إطلاقه على تلك الشعوب الموجود في التورة، وقد شاركه عالم الألماني آخر هو إيكهورن Eichhorn — في أواخر القرن الثامن عشر – بتسمية لغات هذه الشعوب "باللغات السامية". والتسمية لم تخترع اختراعاً، فهي مقتبسة من الكتاب المقدس الذي ورد فيه أنّ أبناء نوح هم سام وحام ويافث، وأنّ القبائل والشعوب تكوّنت من سلالتهم.[9]
                ويبدو أن اللغات السامية قبل تفرقها كانت ترجع إلى أصل واحد، وتشكل شبه وحدة شعبية، إلاّ أن من العسير تعيين ذاك الأصل وتحديد هذه الوحدة، لأنّ المهد الأول للساميين ما يزال غامضا مجهولا، رغم أبحاث العلماء الكثيرة الواسعة الآفاق. وتنقسم اللغات السامية عموماً إلى: شرقية وغربية، كما تنقسم السامية الغربية إلى: غربية شمالية وغربية جنوبية، كما شرحت الباحثة الآتية.
                فنوح هو الأب الثاني بعد آدم، للشعوب البشرية، وعن أولاده الثلاثة تفرّعت هذه الشعوب إلى سامية وحامية وآرية (يافثية). ونظر بعض الباحثين الآخرين إلى موضوع تصنيف اللغات البشرية، نظرة طبيعيّة، فقسّم الأجناس على أساس اللون والتركيب الجسمي. وأيّاً يكن أساس التقسيم فإنه من المتعارف عليه، وجود جنس بشري متميِّز ومتّحد في النشأة والمكان واللّون، تجمع شعوبة خواصّ مشتركة، ويعرف باسم "الجنس السامي".
                قال ربحي كمال: " اللّغات السامية فتطلق على جملة اللغات التي كانت شائعة منذ أزمان بعيدة في آسيا وأفريقيا. وبعضها حيّ لايزال يتكلّم به ملايين البشر، ويحمل كنوزاً غنيّةً من الثقافة والأدب"[10].
                وأمّا الموطن الأصلي للساميين عند آراء العلماء ونظرياتهم، أهمها: (1) المذهب الإفريقي: وصاحبه هو المستشرق "تيودور نولدكه" الذي يقول: "والقرابة الكائنة بين اللغتين: السامية والحامية، تدعو إلى الإعتقاد بأنّ الموطن الأصلي للساميين كان في إفريقا لأنّه من النادر أنّ الحاميين كان لهم موطن أصلي غير القارة السوداء. (2) المذهب الأرميني: وقد ذهب إلى هذ المذهب المستشرق الفرنسي "رينان" وغيره، وهم يذهبون إلى أنّ الساميين "قد وفدوا من أماكن معينة من شعوب أرمينية. وهذا الرأي مستمدّ من سفر التكوين (10/11؛22-24/13) الذي يعزو كثيراً من هذه الشعوب إلى (أرفكشاد)، وهي تقع على حدود أرمينيا وكردستان". (3) المذهب البابلي: وممن ذهب إلى ذلك من المستشرقين "إجناتسيو جويدي" و "فريتس هومل" وغيرهما، فقد حاول أنّ "جويدي" في بحث له نشره في روما سنة 1878/1879 م، أن يبرهن على أنّ "الوطن الأصلي للساميين يقع أسفل الفرات وهو يريد أن يثبت أن المفاهم الجغرافية والنباتية والحيوانية التي عُبّر عنها في كلّ لغة من اللغات السامية بكلمات موحّدة قديمة، هذه المفاهم لاتشير إلا إلى الظروف الطبيعية لتلك المنطقة. (4) المذهب العربي: ومن أنصاره "شِبْرِنْجَرْ" و"دِي غُوَيه" و"كَايْتاني" و"مُوسْكَاتي" وغيرهم، يذهب هؤلاء جميعاً إلى أنّ جزيرة العرب هي المهد الأول للساميين.[11]
                رأت الباحثة نظريات الباحثين المستشرقين بأنّ اللغة العربية تميل كثيراً إلى اللغات السامية الأصلية، لأنّ اللغة العربية احتفظت أكثر إلى السامية الأمّ مما احتفظت به السامية الأخرى من مفرداتها وقواعدها وأصواتها وغير ذلك. أما المستشرقان بروكلمان الألماني BrocKelmann وإرنست رينان الفرنسيErnest Renan  يرجحان أن الموطن الأول للشعب السامي هو القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية. أمّا الآراء الأخرى في تعيين الموطن الأصلي للساميين هي: بلاد إفريقية وبلاد أريمينية وبلاد بابلي وجزيرة العرب.
‌ج.        العربيّة الباقية وأشهر لهجاتها
          لقد أوضحنا أنّ اللّغة العربيّة الباقيّة هي التي مانزال نستخدمها في الكتابة والتأليف والأدب، وهي التي وصلتها عن طريق الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والسنة النبويّة، لذلك تنصرف إليها (العربيّة) عند إطلاقها. والواقع أنّ الإسلام صادف – حين ظهوره – لغة مثالية مصطفاة موحدة جديرة أن تكون أداة التعبير عند خاصة العرب لا عامتهم، فزاد من شمول تلك الوحدة وقويّ من أثرها بنزول قرآنه بلسان عربيّ مبين هو ذلك اللسان المثالي المصطفى[12]. ويبدو أنّ اللّغويين الأقدمين لم يعرضوا اللهجات العربيّة القديمة في العصور المختلفة عرضاً مفصَّلاً يقفنا على الخصائص التعبيريّة والصوتيّة لهاتيك اللهجات، لأنّهم شغلوا عن ذلك باللغة الأدبيّة الفصحى التي نزل بها القرآن وصيغت بها الآثار الأدبيّة في الجاهليّة وصدر الإسلام[13].
وإذا آثرنا عدم التوسع في هذه اللهجات – حتى لايطول بنا البحث كثيراً والمقام لا يسمح به – فإنّ أقصى ما يُغْتَفَرُ لنا الاقتصار عليه من لهجات العربيّة الباقية مجموعتان رئيستان عظيمتان، إحداهما حجازية غربيّة أو كما تسمى أحياناً "قرشية"، والأخرى نجدية شرقيّة أو كما تدعى أحياناً "تميمية". ومن أشهر لهجات العربية الباقية هي :
1)         الكشكشة في ربيعة ومضر، يجعلون بعد كاف الخطاب في المؤنث شِيْناً، فيقولون في "رأيتكِ: رأيتكش"، و"بكِ: بكش"، و"عليكِ: عليكش"، ومنهم من يجعلها مكان الكاف ويكسرها فى الوصل ويسكّنها في الوقف، فيقولون في "منك : مِنْش".
2)         الفحفحة في لغة هذيل، يجعلون الحاءَ عيناً. فيقولون في "كيف حالك : كيف عالك".
3)         الطمطمانية في لغة حِمْيَر وهي إبدالُ لامِ التعريفِ ميماً.  كقولهم في "طاب الهواء : طاب أَمْهواء".
4)         العجعجة في لغة قضاعة وهي جعل الياء المشددة جيماً، فيقولون في تميمي: تميمج.  يجعلون الياء الواقعة بعد عين، فيقولون في الراعي: الراعج وهكذا.
5)         شنشنة اليمن ، تجعل الكاف شينا مطلقا فيقولون في لبّيك اللهمّ : لبّيش اللهمّ.
6)         الحلخانية أعراب الشّحر وعُمان ، فيقولون في ماشاء الله كان : ماشا الله كان.
7)         عنعنة تميم، تقول في موضع أن : عن.[14]
فهذه القسمة الثنائية الرئيسية لِلَّهجات العربية الباقية هي الحد الأدنى  لتلك المجموعة الواسعة من الوحدات اللّغوية المنعزلة المستقلة. وليستحيلنَّ علينا بدون هذه القسمة أن نعلل تعليلاً علمياً صحيحاً وجود تِعلم ونِعلم بكسر حرف المضارعة إلى جانب تَعلم ونَعلم، ووجود حُمْر وجُمْعة إلى جانب حُمُر وجُمُعة، ووجود حَقِدَ يَحْقَدُ إلى جانب حَقَد يحقِد، ووجود هيهات إلى جانب أيهات[15]. وأمثال ذلك أكثر مما نتصور، والخلاف حوله في أصل لهجتي قريش وتميم أوسع نطاقاً مما نقدر أو نستشعر. وسنرى أنّ لهجة قريش التي جعلتها العوامل السياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة هي اللغة العربية الفصحى المقصودة عند الإطلاق، لم تكن في جميع الحالات أقوى قياساً من لهجة تميم، بل كثيراً ما تفوقها في بعض ذلك تميم، ولكنّها – أي قرشية – باعتراف من جميع القبائل وبطواعية واختيار من مختلف لهجاتها، كانت أغزرها مادة، وأرقّها أسلوباً، وأغناها ثروة، وأقدرها على التعبير الجميل الدقيق الأنيق في أفانين القول المختلفة[16].
رأت الباحثة أنّ لهجة قريش قد ارتفعت في الفصاحة، حين تحضر العرب الموسم في كل عام وتحجّ البيت في الجاهليّة، كانت قريش يسمعون لغات العرب، فما استحسنوه من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغتهم من مستبشع اللّغات ومستقبح الألفاظ. لذلك اصطنعت لغة قريش وحدها في الكتابة والتأليف والشعر والخطابة، فكان الشاعر من غير قريش يتحاشى خصائص لهجته ويتجنب صفاتها  الخاصة في بناء الكلمة وإخراج  الحروف وتركيب الجملة وغير ذلك.
آخيراً... استنبطت الباحثة من البحوث السابقة، بأن العربية الباقية هي اللغة العربية التى ماتزال استخدامها اليوم بوجود لهجات متفرقة نحو الكشكشة والفحفحة والطمطمانية والعجعجة وشنشنة اليمن والحلخانية عمان وعنعنة تميم.
‌د.          لهجة تميم وخصائصها
        إنّ في المصادر القديمة والمعاجم اللغوية ما يشير إلى أنّ كثيراً من قواعد اللهجة التميمية أقوى قياساً من بعض القواعد القرشيّة، بل فيها ما تكاد الباحثة تستنتج منه باطمئنانٍ أنّ لهجة تميم كانت في كثير من مفرداتها وتراكيبها هي التي ينطق بها غالباً أبناءُ اللّغة العربيّة. فهذا سيبويه[17] يذكر كيف يراعي التميميون القياس في كسر أوائل الأفعال المضارعة، ويقرّر بوضوح أنّ "ذلك في لغة جميع العرب إلاّ أهل الحجاز". ويؤكّد ابن منظور[18] في "لسان العرب" نسبة هذا القول إلى سيبويه في العبارة الآتية "وزعم سيبويه أنهم يقولون: تقى اللهَ رجلٌ فعل خيراً، يريدون اتّقى اللهَ رجلٌ، فيحذفون ويخففون. وتقول أنت: تَتَّقي اللهَ، وتِتَّقي اللهَ، على لغة من قال تَعْلم وتِعْلم. وتِعْلم بالكسرِ لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وعامة العرب. وأمّا أهل الحجاز وقوم من هوازن وبعض هذيل فيقولون تَعْلم[19].
        وهذا الذي ذكره ابن جنّي عن "ما" التميمية وكونها أقوى قياساً من الحجازية يتعلّق ببعض الفوارق ذات بال، يحسن أن تجمع وينبه عليها: فمن المعلوم أنّ النحاة يقسمون ما "النافية" إلى حجازية وتميمية، فالخبر في الحجازية منصوب، بينما هو في التميمية مرفوع، والقرآن في قوله "ما هذا بشراً"[20] جاء طبعاً على لهجة حجاز[21].
        ومن الفروق بين تميم وقريش أنّ تميماً تجنح كثيراً إلى إدغام المثلين أو الحرفين المتجاورين المتقاربين، فالأمر من "غض" مثلاً في لغة أهل الحجاز "اغضض" بالفكّ، وفي التنزيل "واغضض من صوتك" أي اخفض الصوت... وأهل نجد يقولون: "غضّ صوتك" بالإدغام. وطريقة معالجة تميم لبعض الأفعال والأسماء والحروف والصيغ تختلف اختلافاً واضحاً عن طريقة قريش: (1) إذا فتحت قريش عين الفعل الماضي فقالت: زَهَدَ – حَقَدَ، كسرتها تميم غالباً فآثرت أن تقول: زَهِدَ – حَقِدَ. وإذا ضمت قريش عين المضارع فقالت: يفرُغُ فروغاً إذا بتميم تفتحها، وتقول: يَفرَغُ فراغاً، (2) ومن الاختلاف في الفعل أنّ قريشاً تقول: برَأت من المرض فأنا براء، وتميماً تقول: برِئت فأنا بريء كما هي لغة سائر العرب واللغتان في القرآن العظيم[22].
        ومن الفروق بين تميم وحجاز أنّ اسم الفعل "هلمّ" عند الحجازيين يستوي فيه الواحد والجمع، والتذكير والتأنيث، أما تميم فتلحقه الضمائر وتصرفه تصريف الأفعال "هلمّ هلمّا هلمّي"[23]، والحجاز أيهات وتميم هيهات. واسم الإشارة عند الحجازيين ذلك وتلك، وهو عند تميم ذاك وتاك، وأولاء بالمدّ لغة الحجاز وأولى بالقصر لغة تميم. وقد أشار إلى أصل هذا الخلاف ابن مالك في ألفيته: "وبأولى أشر لجمع مطلقا # والمدّ أولى ولدى البعد انطقا"[24]. والظرف "منذ" عند الحجازيين و"مذ" عند تميم. يقول أهل الحجاز: مارأيته منذ يومين، وتقول تميم: مذ يومين، فيتفقون في الإعراب ويختلفون في مذ ومنذ.
        هذه خلاصة الفوارق الرئيسية بين لهجتي تميم وحجاز، رأت الباحثة من خلال عرضها أنّ من تميم لها خصائص ومميزات، لأنّ لهجة تميم قد أمدت العربية الفصحى بروافد غنية غزيرة، وباستقرار نحوها وصرفها، وسعة اشتقاقها. وكذلك ترى أن اللهجة التميمية لها تأثير عظيم في تطوّر اللغة العربية المستخدمة في هذا العصر كما جاء بها الله في استعمال بعض المفردات التميمية في القرآن. واللهجة التميمية لها خصائص تختلف عن خصائص اللهجة القرشية لتسهّلهم في النطق وإبراز قبيلتهم التميمي بين القبائل العربية الأخرى.
‌ه.        الفرق بين لهجة قريش ولهجة أسد
   تنبثق من اللغة بمرور الزمن لهجات متعددة، وذلك لأن لسان الإنسان ميال بتأثر من الطبع والمزاج الذى يتأثر بالظروف المحيطة والأحوال إلى تغيير في الألفاظ، وهذا كائن على صعيد المجتمعات الصغيرة كقبيلة أوقرية أو حي في مدينة.[25]
‌أ.              الفرق في تحقيق الهمزة، تقول قريش "أأنذرتهم" فتقول أسد "أنذرتهم"، وفي قول "مشائخ" تقول أسد "مشايخ" وقول "يؤمنون" تقول أسد "يومنون". وكما تفرّقان بين تميم وحجاز في نبر الهمزة وتحقيقها.[26]
‌ب.       لهجة أسد تؤنث الصفة المنتهية بالألف والنون بإضافة تاء التأنيث، فتقول في مؤنث غضبان : غضبانة، أما لهجة قريش فإن مؤنث غضبان يأتي على وزن فعلى، نحو غضبان : غضبى.
‌ج.         استعمل بنو أسد لفظة "يَسْتَأْهِلُ" بمعنى يستحق، مع أن بني قريش استعمل تلك الكلمة بمعنى أَهْلاً.
‌د.            قال علي ناصر غالب عن رأي الخليل فى كتابه : (أخذ بني أسد على استعمالين لهجتين، فقال : كال البر يكيل كيلا # والبر مكيل ) ولهجة أسد يقول مكيل مكول.[27]
‌ه.         كسر أوائل الأفعال المضارعة نحو ((يَسْتَعِيْنُ)) في لهجة قريش و لهجة أسد يقول ((يِسْتَعِيْنُ)).
‌و.           جاء في لهجة أسد جمع ريح أرياح ويرجع أسدية في قول تعالى ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاح))[28]، مع أن قريش تقول أرواح في جمع ريح.
   من البحوث السابقة، أنّ وجود الاختلافات بين لهجة قريش ولهجة أسد ظهرت لأنّ لسان الإنسان ميال بتأثر طبيعة مجتمعها وبيئتها. وكانت لهجة قريش هي تغلب جميع اللهجات في اللغات السامية ببقائها إلى هذا اليوم.


[1]   صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، الطبعة الثانية، (بيروت: المكتبة الأهلية، )1926، ص 29-30
[2]   علي عبد الواحد وافي، علم اللغة، (القاهرة: دار نهضة مصر، 1962) ، ص 188
[3]   عبد الغفّار حامد هلال، العربيّة خصائصها وسماتها، الطبعة الخامسة، (القاهرة: مكتبة وهبة، 2004)، ص 56
[4]   ذُكر في مرجع آخر "اللغات الإيطالية"
[5]   أحمد محمد، قدور. مدخل إلى فقه اللّغة العربيّة، ص 58-59
[6]   أحمد محمد، قدور. مدخل إلى فقه اللّغة العربيّة، ص 70-74
[7]   عبد الغفّار، العربيّة خصائصها وسماتها، ص 58
[8]   انظر: وافي،  علم اللغة، ص 179- 208
[9]   صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص 36
[10]   ربحي كمال، دروس اللّغة العبريّة، (بيروت: دار العلم للملايين، 1963)، ص 6
[11]  رمضان عبد التواب، فصول في فقه العربية، الطبعة السادسة، (قاهرة: مكتبة الخانجى، 1999)، ص 38-40
[12]   إبراهيم أنيس، اللهجات: في اللهجات العربيّة، الطبعة الثانية، (القاهرة: مجهول المطبع والانتشار، 1952)، ص 34
[13]   صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص 51
[14]   صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص 53
[15]   اللفظة الأولى من جميع هذه الأمثلة لتميم والأخرى لقريش
[16]   صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص 60
[17]   هو إمام النحاة، عمرو بن عثمان، أبو بشر، المقلب بسيبويه. أوّل من بسط علم النحو، وصنف كتابه المسمى "كتاب سيبويه" لم يصنع قبله ولابعده مثله في النحو. توفي شاباً سنة 180 ﻫ
[18]   هو محمّد بن مكرم، المعروف بابن منظور المصري، لغوي كبير. توفي بالقاهرة سنة 711 ﻫ. طبع معجمه "لسان العرب" في بولاق ثم في بيروت أخيراً.
[19]  صبحي الصالح، دراسات في فقه اللغة، ص 66
[20]   سورة يوسف 31
[21]   صبحي الصالح، ص 68
[22]  ولذلك تجد الباحثة في اللسان 328 "فرغ يفرَغ ويفرُغ فراغاً وفروغاً"
[23]  لسان العرب 101
[24]  جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك، شرح ابن عقيل على ألفية بن مالك، (سورابايا: مكتبة الهداية، مجهول السنة)، ص 46
[25]  عبد الرحمن أحمد البوريني، اللغة العربية أصل اللغات كلّها (الأردن: 1998)، 67.
[26] صبحي صالح، دراسات في فقه اللغة، ص 80.
[27]  علي ناصر غالب، لهجة قبيلة أسد (بغداد: 1989)، 48-50.
[28] الحجر : 22.
Previous
Next Post »
Thanks for your comment